تلاقـح فكـريّ أم تدافـع همجـيّ - 14 ديسمبر 2012

صحيفة المدينة

تلاقـح فكـريّ أم تدافـع همجـيّ - 14 ديسمبر 2012

2021-11-10    463

كم هو جميل أن تعود بعد أكثر من عشرين سنة إلى مرابع الجامعة التي درست فيها وأمضيت فيها فترة من أزهى فترات حياتك.
تشعر حينها كأن الزمن يطوى، وكأن ذكريات الماضي تنتفض حية أمامك، وكأن ذلك التاريخ الذي طواه الزمن عاد مرة أخرى بكل تفاصيله وحكاياتِه، بخيباتِهِ ونجاحاته، بحلاواته ومراراته.

كان ذلك ماشعرت به وأنا أدخل إلى جامعة (ويلز) ببريطانيا بعد اثنين وعشرين عاما من مغادرتي لها بعد حصولي على شهادة الدكتوراه.
في هذه الزيارة استقبلني مدير الجامعة مشكورا، وجلست في مكتبه نتباحث حول هموم التعليم العالي ومشكلاتِه، ولاسيما حول (إشكالية التواصل) بين قيادات الجامعة وطلابها.
أدار رئيس الجامعة شاشة حاسوبه إلي فوجدت صفحته على الفيس، قال لي: اقرأ، فقرأت ملاحظات الطلاب ومآخذهم ونقداتِهم عليه وعلى الجامعة.
ما لفت نظري أن هذه الملاحظات على جودتها وجديتها وحساسية بعضها إلا أنها كانت معروضة بلغةٍ مهذبة، لغةٍ تليق بطالب جامعي مثقف يتأهل لاقتعاد منزلتِه اللائقة في خدمة بلادِه.
قارنت بين هذا الواقع وواقع شبكات التواصل في بلادي الحبيبة، هذا الواقع الذي يعج بكثير من الإساءات والشتائم والبذاءات والافتراءات والعدوان على الأعراض. لقد نجح بعض الناس ــ عفا الله عنه ــ في تحويل هذه الشبكات الاجتماعية من وسائل اتصال إلى أسلحة اقتتال! ومن تلاقح فكري إلى تدافع همجي! ومن رياضٍ منعمة إلى ساحاتٍ ملغمة!.
هذا الواقع المر هو الذي دفع هيئة الاتصالات وتقنية المعلومات السعودية إلى فرض عقوبات على معيدي نشر الإساءات على مواقع التواصل الاجتماعي، تصل هذه العقوبات إلى السجن خمس سنوات، وغرامةٍ تبلغ 3 ملايين ريال.
لست أدعو هنا إلى السكوتِ عن الأخطاء، ولا إلى إلغاء القوةِ التأثيرية لهذه الشبكات، ولكنني أدعو فقط إلى ترشيد استخدامها، وحفظ حقوق الهيئات والأشخاص.
صحيح أن المسؤول مطالب وجوبا بالاستماع إلى النقد والإصغاء إلى الملاحظات وفعل شيء حيالها، ولكن المواطن مطالب أيضا بأدب الخطاب وأخلاقيات التعامل، وبأن يتثبت قبل أن يرسل كلمته تسير بها الركبان.
واجب الإصغاء إلى المطالب والملاحظات لا يعني وجوب تحمل الشتائم والبذاءات، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن طعانا ولا لعانا ولا شتاما بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.
ومن المهم أن يدرك (المغرد) أو (المفسبك) أن مسيرة الإصلاح هدفها الحقيقي إحداث تغيير إيجابي في الواقع، وليس هدفها مجرد التنفيس عن الاحتقان وإطلاق العنان للغضب المكبوت. وأظن أن كل عاقل يدرك أن (الشتائم) لم تصنع قط واقعا أفضل. وأن التواصل الإيجابي العقلاني الهادئ كثيرا ما يصنع الفرق.
سأكون صريحا ..
نعم قد يكون هناك مسؤولون ليسوا على قدر المسؤولية .. ولكن قطاعا عريضا من رجالات هذه الدولة المباركة مخلصون وراغبون في العمل، مثل هؤلاء تنفعهم الملاحظات والنصائح، أما الشتائم فلا تزيد على أن تحول بينهم وبين سداد الموقف والعمل.
ومع كل ماسبق.. يبقى من واجبات المسؤول أن يتواصل مع الجميع ويصبر على قليل الشر تحصيلا لكثير الخير، وليس له أن يختار راحة الابتعاد لأن غيره قد اختار حدة الانتقاد.
* مدير جامعة أم القرى.


مشاركة :